المعنى:
الباء حرف هجاء من حروف المعجم، وأَكثر ما تَرِد بمعنى الإِلْصاق لما ذُكِر قَبْلها من اسم أَو فعل بما انضمت إليه، وقد تَرِدُ بمعنى المُلابسة والمُخالَطة، وبمعنى من أَجل، وبمعنى في ومن وعن ومع، وبمعنى الحال والعوض، وزائدةً، وكلُّ هذه الأَقسامِ قد جاءت في الحديث، وتعرف بسياق اللفظ الواردة فيه، والباء التي تأْتي للإلصاق كقولك: أَمْسَكْت بزيد، وتكون للاستعانة كقولك: ضَرَبْتُ بالسيَّف، وتكون للإِضافة كقولك: مررت بزيد. قال ابن جني: أَما ما يحكيه أَصحاب الشافعي من أَن الباءَ للتبعيض فشيء لا يعرفه أَصحابنا ولا ورد به بيت، وتكون للقسم كقولك: بالله لأَفْعَلَنَّ. وقوله تعالى: أَوَلم يَرَوا أَن الله الذي خَلَقَ السمواتِ والأَرضَ ولم يَعْيَ بخلقهن بقادرٍ؛ إنما جاءَت الباء في حَيِّز لم لأَنها في معنى ما وليس، ودخلت الباءُ في قوله: وأَشْرَكُوا بالله، لأَن معنى أَشرَكَ بالله قَرَنَ بالله عز وجل غيره، وفيه إضمار. والباء للإِلْصاق والقِرانِ، ومعنى قولهم: وَكَّلْت بفلان، معناه قَرَنْتُ به وَكيلاً. وقال النحويون: الجالِبُ للباء في بسم الله معنى الابتداء، كأَنه قال أَبتدئ باسم الله. وروي عن مجاهد عن ابن عمر أَنه قال: رأَيته يَشْتَدُّ بين الهَدَفَيْن في قميص فإذا أَصاب خَصْلةً يقول أَنا بها أَنا بها، يعني إذا أَصاب الهَدَفَ قال أَنا صاحِبُها ثم يرجع مُسكِّناً قومه حتى يمُرَّ في السوق؛ قال شمر: قوله أَنا بها يقول أَنا صاحِبُها. وفي حديث سلمة بن صَخْر: أَنه أَتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فذكر أَن رجلاً ظاهَرَ امرأَتَه ثم وقَع عليها، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّكَ بذَلِك يا سلَمةُ؟ فقال: نَعَم أَنا بذَلِكَ؛ يقول: لعلك صاحِبُ الأَمْر، والباء متعلقة بمحذوف تقديره لعلك المُبْتَلى بذلك. وفي حديث عمر، رضي الله عنه: أَنه أُتِيَ بامرأَةٍ قد زَنَتْ فقال: مَنْ بِكِ؟ أَي من الفاعِلُ بكِ؛ يقول: مَن صاحِبُك. وفي حديث الجُمعة: مَن تَوَضَّأَ للجُمعة فبِها ونِعْمَتْ أَي فبالرُّخصة أَخَذَ، لأَن السُّنة في الجمعة الغُسلُ، فأَضمر تقديره ونِعْمَت الخَصْلَةُ هي فحذَف المخصوص بالمدح، وقيل: معناه فبالسُّنْة أَخذَ، والأَوَّل أَوْلى. وفي التنزيل العزيز: فسَبِّحْ بحَمْدِ رَبِّك؛ الباء هَهُنا للالتباس والمخالطة، كقوله عز وجل: تَنْبُتُ بالدُّهن أَي مُخْتَلِطَة ومُلْتَبِسة به، ومعناه اجْعَلْ تَسْبِيحَ اللهِ مُخْتَلِطاً ومُلْتَبِساً بحمده، وقيل: الباء للتعدية كما يقال اذْهَب به أَي خُذْه معك في الذَّهاب كأَنه قال سَبِّحْ رَبَّكَ مع حمدك إياه. وفي الحديث الآخر: سُبْحَانَ الله وبحَمْده أَي وبحَمْده سَبَّحت، وقد تكرر ذكر الباء المفردة على تقدير عامل محذوف، قال شمر: ويقال لمَّا رآني بالسِّلاح هَرَبَ؛ معناه لما رآني أَقْبَلْتُ بالسلاح ولما رآني صاحِبَ سِلاح؛ وقال حُميد:
رَأَتْنـي بحَبْلَيْهـا فرَدَّتْ مَخافةً
أَراد: لما رأَتْني أَقْبَلْتُ بحبليها. وقوله عز وجل: ومَن يُردْ فيه بإِلحاد بظُلْم؛ أَدخل الباء في قوله بإِلْحاد لأَنها حَسُنَت في قوله ومَن يُرِدْ بأَن يُلْحِد فيه. وقوله تعالى: يَشْرَبُ بها عبادُ الله؛ قيل: ذهَب بالباء إلى المعنى لأن المعنى يَرْوى بها عِبادُ الله. وقال ابن الأَعرابي في قوله تعالى: سأَلَ سائلٌ بعَذاب واقِعٍ؛ أَراد، والله أَعلم، سأَل عن عذاب واقع، وقيل في قوله تعالى: فَسَيُبْصِرُ ويُبْصِرونَ بأَيِّكُمُ المَفْتُونُ؛ وقال الفراء في قوله عز وجل: وكَفى باللهِ شَهِيداً؛ دخلت الباء في قوله وكفى بالله للمُبالَغة في المدح والدلالة على قصد سبيله، كما قالوا: أَظْرِفْ بعَبْدِ اللهِ وأَنْبِلْ بعَبْدِ الرحمن، فأَدخلوا الباء على صاحبِ الظَّرْف والنُّبْلِ للمُبالغة في المدح؛ وكذلك قولهم: ناهِيكَ بأَخِينا وحَسْبُكَ بصدِيقنا، أَدخلوا الباء لهذا المعنى، قال: ولو أَسقطت الباء لقلت كفى اللهُ شَهيداً، قال: وموضع الباء رَفْعٌ في قوله كَفى بالله؛ وقال أَبو بكر: انْتصابُ قوله شهيداً على الحال من الله أَو على القطع، ويجوز أَن يكون منصوباً على التفسير، معناه كفى بالله من الشاهدين فيَجْري في باب المنصوبات مَجْرى الدِّرْهَمِ في قوله عندي عشرون دِرْهَماً، وقيل في قوله: فاسْأَل به خَبيراً؛ أَي سَلْ عنه خَبِيراً يُخْبِرْكَ؛ وقال علقمة:
فإنْ تَسْأَلوني بالنِّساء، فإِنَّني
بَصـِيرٌ بـأَدْواءِ النِّسـاءِ طَبيبُ
أَي تَسْأَلُوني عن النِّساء؛ قاله أَبو عبيد. وقوله تعالى: ما غَرَّكَ برَبِّك الكريم؛ أَي ما خَدَعكَ عن رَبِّكَ الكريم والإِيمانِ به؛ وكذلك قوله عز وجل: وغَرَّكُم باللهِ الغَرُورُ؛ أَي خَدَعَكُم عن الله والإِيمان به والطاعة له الشَّيْطانُ. قال الفراء: سمعت رجلاً من العرب يقول أَرْجُو بذلِك، فسأَلتُه فقال: أَرْجُو ذاك، وهو كما تقول يُعْجِبُني بأَنَّك قائم، وأُريدُ لأَذْهَب، معناه أَريد أَذْهَبُ. الجوهري: الباء حرف من حروف المعجم، قال: وأَما المكسورة فحرف جر وهي لإلصاق الفعل بالمفعول به، تقول: مررت بزَيْدٍ، وجائز أَن يكون مع استعانة، تقول: كَتبتُ بالقلم، وقد تجيء زائدة كقوله تعالى: وكفى بالله شَهيداً؛ وحَسْبُكَ تزيد، وليس زيدٌ بقائم. والباء هي الأَصل في حُروف القَسَم تشتمل على المُظْهَر والمُضْمَر، تقول: بالله لقد كان كذا، وتقول في المُضْمَر: لأَفْعَلَنَّ؛ قال غوية بن سلمى:
أَلا نــادَتْ أُمامـةُ باحْتمـالي
لتَحْزُنَنيـ، فَلا يَـكُ مـا أُبالي
الجوهري: الباء حرف من حروف الشفة، بُنِيَت على الكسرِ لاسْتِحالةِ الابْتِداء بالمَوْقُوفِ؛ قال ابن بري: صوابه بُنِيت على حركة لاستِحالة الابتداء بالساكن، وخصّت بالكسر دون الفتح تشبيهاً بعملها وفرقاً بينها وبين ما يكون اسماً وحرفاً. قال الجوهري: والباء من عوامل الجر وتختص بالدخول على الأَسماء، وهي لإلصاق الفعل بالمفعول به، تقول مررت بزيد كأَنك أَلْصَقْتَ المُرور به. وكلُّ فِعْلٍ لا يَتَعَدَّى فلك أَن تُعَدِّيه بالباءِ والأَلف والتشديد، تقول: طارَ به، وأَطارَه، وطَيّره؛ قال ابن بري: لا يصح هذا الإطلاق على العُموم، لأَنَّ من الأَفْعال ما يُعَدَّى بالهَمْزة ولا يُعَدَّى بالتضعيف نحو عادَ الشيءُ وأَعَدْتُه، ولا تقل عَوَّدْته، ومنها ما يُعدَّى بالتضعيف ولا يعدَّى بالهمزة نحو عَرَف وعَرَّفْتُه، ولا يقال أَعْرَفْتُه، ومنها ما يُعَدَّى بالباء ولا يُعَدَّى بالهمزة ولا بالتضعيف نحو دفَعَ زيد عَمْراً ودَفَعْتُه بعَمرو، ولا يقال أَدْفَعْتُه ولا دَفَّعْتَه. قال الجوهري: وقد تزاد الباء في الكلام كقولهم بحَسْبِكِ قَوْلُ السَّوْءِ؛ قال الأَشعر الزَّفَيانُ واسمه عَمرو ابن حارِثَةَ يَهْجُو ابنَ عمه رضْوانَ:
بحَسـْبِكَ فـي القَوْمِ أَنْ يَعْلَمُوا
بأَنَّـــكَ فيهــم غَنِــيٌّ مُضــِرّ
وفي التنزيل العزيز: وكَفَى برَبِّك هادِياً ونَصِيراً؛ وقال الراجز:
نحـنُ بَنُـو جَعْدَةَ أَصحابُ الفَلَجْ
نَضـْرِبُ بالسـيفِ ونرْجُو بالفَرَجْ
أَي الفَرَجَ؛ وربما وُضِعَ موضِعَ قولك مِنْ أَجل كقول لبيد:
غُلْـبٌ تَشـَذَّرُ بالـذُحُولِ كـأَنهمْ
جِـنُّ البَـدِيِّ، رَواسِياً أَقْدامُها
أَي من أَجل الذُّحُول، وقد تُوضَعُ مَوْضِعَ على كقوله تعالى: ومِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بدِينارٍ؛ أَي على دِينار، كما تُوضَعُ على مَوْضِعَ الباء كقول الشاعر:
إِذا رَضــِيَتْ علـيَّ بَنُـو قُشـَيْرٍ
لَعَمْـرُ اللـهِ أَعْجَبَنـي رِضـاها
أَي رَضِيَتْ بي. قال الفراء: يوقف على الممدود بالقصر والمدّ شَرِبْت مَا، قال: وكان يجب أَن يكون فيه ثلاث أَلفات، قال: وسمعت هؤلاء يقولون شربت مِي يا هذا قال: وهذه بي يا هذا، وهذه ب حَسَنَةٌ، فشَبَّهوا الممدود بالمقصور والمقصور بالممدود، والنسب إِلى الباء بَيَوِيٌّ. وقصيدة بَيَوِيَّةٌ: رَوِيُّها الباء؛ قال سيبويه: البا وأَخواتها من الثنائي كالتا والحا والطا واليا، إذا تهجيت مقصورة لأَنها ليست بأَسماء، وإِنما جاءت في التهجي على الوقف، ويدلك على ذلك أَن القاف والدال والصادَ موقوفةُ الأَواخِرِ، فلولا أَنها على الوقف لَحُرِّكَتْ أَواخِرهن، ونظير الوقف هنا الحذف في الباء وأَخواتها، وإِذا أَردت أَن تَلْفِظ بحروف المعجم قَصَرْتَ وأَسْكَنْت، لأَنك لست تريد أَن تجعلها أَسماء، ولكنك أَردت أَن تُقَطِّع حروف الاسم فجاءَت كأَنها أَصوات تُصَوِّتُ بها، إِلا أَنك تقف عندها لأَنها بمنزلة عِهْ، وسنذكر من ذلك أَشياء في مواضعها، والله أَعلم.